سورة البقرة - تفسير روائع البيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)}
[10] إتمام الحج والعمرة:
التحليل اللفظي:
{أُحْصِرْتُمْ}: الإحصار في اللغة معناه: المنع والحبس، يقال: حَصَره عن السفر وأحصره عنه إذا حبسه ومنعه قال الشاعر:
وما هجرُ ليلى أن تكون تَباعدت *** عليك ولا أن أحصرتْكَ شُغُول
قال في (اللسان): الإحصار أن يُحضر الحاج عن بلوغ المناسك بمرضٍ أو نحوه.
قال الفراء: العرب تقول للذي يمنعه خوف أو مرض من الوصول إلى تمام حجه أو عمرته: قد أُحْصر، وفي الحبس إذا حبسه سلطان، أو قاهر مانع: قد حُصِر.
وقال الأزهري وأبو عبيدة: حًصر الرجل في الحبس، وأحصر في السفر من مرضٍ أو انقطاع به.
{الهدي}: الهديُ ما يهدى إلى بيت الله من بدنة أو غيرها، وأصله هديٌّ مشدد فخفّف، جمع هديّة قاله ابن قتيبة، وقال القرطبي: وسميت هدياً لأن منها ما يهدى إلى بيت الله.
{مَحِلَّهُ}: المحلّ بكسر الحاء الموضع الذي يحل به نحر الهدي وهو الحرم، أو مكان الإحصار.
{نُسُكٍ}: النّسك: جمع نسيكة وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى وأصل النسك العبادة ومنه قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] أي متعبداتنا.
{رَفَثَ}: الرفث: الإفحاش للمرأة بالكلام. وكل ما يتعلق بذكر الجماع ودواعيه، وأنشد أبو عبيدة:
وربّ أسراب حجيجٍ كظّم *** عن اللغا ورفث التكلم
{فُسُوقَ}: الفسوق في اللغة: الخروج عن الشيء يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرها، وفي الشرع الخروج عن طاعة الله عز وجل، ومنه قوله تعالى في حق إبليس: {كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] والمراد في الآية جميع المعاصي.
{جِدَالَ}: الجدال: الخصام والمراء، ويكثر عادة بين الرفقة والخدم في السفر.
{الزاد}: ما يتزود به الإنسان من طعام وشراب لسفره، والمراد به التزود للآخرة بالأعمال الصالحة قال الأعشى:
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التُقى *** ولاقيتَ بعد الموتِ من قد تزودّا
ندمتَ على ألاّ تكون كمثله *** وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
{جُنَاحٌ}: الجناحُ: الحرج والإثم من الجنوح وهو الميل عن القصد وقد تقدم.
{أَفَضْتُم}: أي اندفعتم يقال: فاض الإناء إذا امتلأ حتى ينصبّ على نواحيه.
قال الراغب: فاض الماء إذا سال منصباً، والفيضُ: الماء الكثير، ويقال غيضٌ من فيض، أي قليل من كثير، وقوله تعالى: {أَفَضْتُم مِّنْ عرفات} أي دفعتم منها بكثرة تشبيهاً بفيض الماء.
وقال الزمخشري: أفضتم: دفعتم بكثرة، وهو من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة، وأصله أفضتم أنفسكم، فتُرك ذكرُ المفعول.
{عرفات}: اسم علم للموقف الذي يقف فيه الحجاج، سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها، وهي اسم في لفظ الجمع (كأذرعات) فلا تجمع.
قال الفراء: عرفات جمع لا واحد له، وقول الناس: نزلنا عرفة شبيهٌ بمولّد. وليس بعربي محض. وقوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»
هو اسم لليوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم الوقوف بعرفات، وليس اسماً للمكان كما صرح به الراغب.
{المشعر الحرام}: هو جبل المزدلفة يقف عليه الإمام، وسمي (مَشْعراً) لأنه مَعْلم للعبادة، ووصف بالحرام لحرمته.
{مَّنَاسِكَكُمْ}: المناسك جمع (مَنْسَك) الذي هو المصدر بمنزلة النسك، أي إذا قضيتم عباداتكم التي أمرتم بها في الحج، وإن جعلتها جمع (مَنْسَك) الذي هو موضع العبادة كان التقدير: فإذا قضيتم أعمال مناسككم فيكون من باب حذف المضاف أفاده الفخر.
{خَلاَقٍ}: أي نصيب وقد تقدم، ومعنى الآية: ليس له في الآخرة نصيب من رحمة الله.
المعنى الإجمالي:
أمر الله المؤمنين بإتمام الحج والعمرة، وأداء المناسك على الوجه الأكمل ابتغاء وجه الله، فإذا مُنع المحرم من إتمام النسك بسبب عدوٍ أو مرض، وأراد أن يتحلل فعليه أن يذبح ما تيسّر له من بدنة، أو بقرة، أو شاة، ونهى تعالى عن الحلق والتحلل قبل بلوغ الهدي المكان الذي يحل ذبحه فيه، أمّا من كان مريضاً أو به أذى في رأسه فإنه يحلق وعليه فدية، إمّا صيام ثلاثة أيام، أو يذبح شاة، أو يتصدق على ستة مساكين، لكن مسكين فدية، صاعٍ من طعام فمن اعتمر في أشهر الحج واستمتع بما يستمتع به غير المحرم من الطيب والنساء وغيرها فعليه ما استيسر من الهدي شكر الله تعالى، فمن لم يجد الهدي فعليه صيام عشرة أيام، ثلاثة حين يحرم بالحج وسبعة إذا رجع إلى وطنه. ذلك التمتع خاص بغير أهل الحرم، أما أهل الحرم فليس لهم تمتع وليس عليهم هدي.
ثم بيّن تعالى أشهر الحج وهي (شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة) وأمر من ألزم نفسه الحج بالتجرد عن عاداته، وعن التمتع بنعيم الدنيا، لأنه مقبل على الله، قاصد لرضاه، فعليه أن يترك النساء والاستمتاع بهن، وأن يترك المعاصي والنزاع والجدال مع الناس، وأن يتزود من الأعمال الصالحة التي تقربه من الله.
ثم أبان تعالى أن الكسب في أيام الحج غير محظور، وأن التجارة الدنيوية لا تنافي العبادة الدينية، وقد كان الناس يتأثمون من كل عمل دنيوي أيام الحج، فأعلمهم الله أن الكسب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص ثم أمر تعالى الناس بعد الدفع من عرفات، أن يذكروا الله عند المشعر الحرام، بالدعاء والتكبير والتلبية، ون يشكروه على نعمة الإيمان، فإذا فرغوا من مناسك الحج، فليكثروا ذكر الله وليبالغوا فيه كما كانوا يفعلون بذكر آبائهم ومفاخرهم.
روي عن ابن عباس أنه قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، يتفاخرون بمآثر آبائهم، يقول الرجل منهم: كان أبي يُطعم، ويحمل الحمالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكرٌ غير فعال آبائهم فأنزل الله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}.
وجه الارتباط بالآيات السابقة: ذكرت أحكام الحج بعد ذكر أحكام الصيام، لأن شهوره تأتي مباشرة بعد شهر الصيام، وأما آيات القتال السابقة فقد نزلت في بيان أحكام الأشهر الحرم، والإحرام، والمسجد الحرام، ولما كان عليه السلام قد أراد العمرة وصدّه المشركون أول مرة بالحديبية، وأراد القضاء في العام القابل، وخاف أصحابه غدر المشركين بهم أنزل الله أحكام القتال، ثم عاد الكلام إلى إتمام أحكام الحج فهذا هو وجه الارتباط والله تعالى أعلم.
سبب النزول:
أولاً: عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه قال: «حُملتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنتُ أرى أن الجهد بلغ بك هذا!! أما تجد شاة؟ قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مساكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك» فنزلت: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} قال فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة.
ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودن، ويقولون: نحو المتوكلون فيسألون الناس، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى}.
ثالثاً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحس، وسائر العرب يقفون بعرفات) فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها يفيض منها فذلك قوله: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس}.
وفي رواية كانوا يقولون: (نحن أهل الله وقطّان حرمه فلا نخرج منه ولا نفيض إلا من الحرم).
وجوه القراءات:
1- قرأ الجمهور: {أو نُسُكٍ} بضم النون والسين، وقرأ الحسن: {أو نُسْكٍ} بسكون السين.
2- قرأ الجمهور: {فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدال في الحج} بالفتح في الجميع، وقرأ أبو جعفر وابن كثير بالرفع في الجميع {فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالٌ في الحج}.
وجوه الإعراب:
1- قوله تعالى: {فَمَا استيسر مِنَ الهدي} قال الزمخشري: رفع بالابتداء أي فعليه ما استيسر، أو نصب على تقدير: فاهدوا ما استيسر.
2- قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} (الحج) مبتدأ و(أشهرٌ) الخبر، والتقدير: أشهر الحج أشهر معلومات كقولهم: البرد شهران أي وقت البرد شهران.
أقول: إنما قدّر العلماء ذلك لأنه من المعلوم أن الحج ليس نفس الأشهر.
3- قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} (لا) نافية للجنس (رفث) اسمها و(في الحج) الخبر و(لا) مكررة للتوكيد في المعنى وهو خبر يفيد النهي أي لا ترفثوا ولا تفسقوا.
4- قوله تعالى: {واذكروه كَمَا هداكم} الكاف نعت لمصدر محذوف و(ما) مصدرية والتقدير اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هدايةً حسنة، ويجوز أن تكون الكاف بمعنى (على) والتقدير: اذكروا الله على ما هداكم، وقوله تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ} إنْ مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة.
لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى: الهديُ يطلق على الحيوان الذي يسوقه الحاج أو المعتمر هديّة لأهل الحرم من غير سببٍ موجب، وهذا ليس مراداً هنا، ويطلق على ما وجب على الحاج أو المعتمر بسبب موجب كترك واجب أو فعل شيء محظوراً، أو كالإحصار والتمتع وهذا هو المراد في الآية الكريمة.
اللطيفة الثانية: المراد بإتمام الحج والعمرة الإتيان بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما ظاهراً بأداء المناسك على وجهها، وباطناً بالإخلاص لله تعالى من غير رياءٍ ولا سمعة قال الشاعر:
إذا حججتَ بمال أصله سُحُتٌ *** فما حججتَ ولكنْ حجّت العير
لا يقبل الله إلا كل خالصةٍ *** ما كلّ من حج بيت الله مبرور
اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: {أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} فيه مجاز بالحذف تقديره: فحلق ففدية من صيام، فحذف فحلق اختصاراً، فهو مثل قوله تعالى في آية الصيام: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] حذف كلمة (فأفطر) اختصاراً لدلالة اللفظ عليه.
اللطيفة الرابعة: التوكيد طريقة مشهورة في كل العرب فقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} جاء على طريقهم في التوكيد، مثل قوله: {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وقوله: {ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4] وفيه فائدة دفع التوهم إذ أن بعض العرب يستعملون عدد السبعة للكثرة في الآحاد، كما يستعملون عدد السبعين لغاية الكثرة، فلئلا يتوهم السامع ذلك قال (عشرة كاملة) فتنبه له.
اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} كانت قريش لا تخرج من الحرم وتقول: لسنا كسائر الناس، نحن أهل الله وقطّان حرمه فلا نخرج منه، وكان الناس يقفون خارج الحرم ويُفيضون منه فأمرهم الله أن يقفوا حيث يقف الناس، ويفيضوا من حيث أفاض الناس، أفاده ابن قتيبة.
اللطيفة السادسة: من بلاغة الإيجاز في الآية التصريح في مقام الإضمار، بذكر الحج ثلاث مرات في قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} فالمراد بالأول زمان الحج، وبالثاني الحج نفسه المسمّى بالنسك، وبالثالث ما يعم الزمان والمكان وهو (الحرم) ولو قال: فمن فرضه فيهن فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه، لم يؤدّ هذه المعاني كلها، وجاء بصيغة النفي لأنه أبلغ في النهي.
قال أبو السعود: وإيثار النفي للمبالغة في النهي، والدلالة على أن ذلك حقيق بألاّ يكون.
الأحكام الشرعية:
الحكم الأول: هل العمرة واجبة كالحج؟
اختلف الفقهاء في حكم العمرة، فذهب الشافعية والحنابلة إلى أنها واجبة كالحج، وهو مروي عن (علي) و(ابن عمر) و(ابن عباس).
وذهب المالكية والحنفية إلى أنها سنة، وهو مروي عن (ابن مسعود) و(جابر بن عبد الله).
أدلة الشافعية والحنابلة:
استدل الشافعية والحنابلة على مذهبهم ببعضة أدلة نوجزها فيما يلي:
أولاً- قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} فقد أمرت الآية بالإتمام وهو فعل الشيء والإتيان به كاملاً تاماً فدل على الوجوب.
ثانياً- ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال لأصحابه: «مَن كان معه هدي فليهلّ بحجة وعمرة».
ثالثاً- ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».
أدلة المالكية والحنفية:
واستدل المالكية والحنفية على أن العمرة سنة بما يلي:
أولاً: عدم ذكر العمرة في الآيات التي دلت على فريضة الحج مثل قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] وقوله جل ثناؤه: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج...} [الحج: 27] الآية.
ثانياً: قالوا إن الأحاديث الصحيحة التي بيّنت قواعد الإسلام لم يرد فيها ذكر العمرة، فدل ذلك على أن العمرة ليست بفريضة، وأنها تختلف في الحكم عن الحج.
ثالثاً: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحج جهادٌ والعمرة تطوع».
رابعاً: ما روي عن جابر بن عبد الله أنّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي؟ «قال: لا، وأن تعتمروا خير لكم».
خامساً: وأجابوا عن الآية والأحاديث التي استدل بها الشافعية فقالوا: إنها محمولة على ما كان بعد الشروع، فإن التعبير بالإتمام مشعر بأنه كان قد شرع فيه، وهذا يجب بالاتفاق.
قال العلامة الشوكاني: وهذا وإن كان فيه بعد، لكنه يجب المصير إليه جمعاً بين الأدلة، ولا سيما بعد تصريحه صلى الله عليه وسلم بما تقدم في حديث جابر من عدم الوجوب، وعلى هذا يحمل ما ورد مما فيه دلالة على وجوبها.
أقول: لعل هذا الرأي يكون أرجح والله تعالى أعلم.
الحكم الثاني: هل الإحصار يشمل المرض والعدو؟
اختلف العلماء في السبب الذي يكون به الإحصار، والذي يبيح للمحرم التحلل من الإحرام.
فذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) إلى أن الإحصار لا يكون إلا بالعدو، لأن الآية نزلت في إحصار النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، عندما منع من دخول مكة هو وأصحابه وكانوا محرمين بالعمرة.
وقال ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو.
وذهب أبو حنيفة: إلى أن الإحصار يكون من كل حابس يحبس الحاج عن البيت من عدوٍ، أو مرضٍ، أو خوفٍ، أو ذهاب نفقة، أو ضلال راحلةٍ، أو موت محرم الزوجة في الطريق، وغير ذلك من الأعذار المانعة.
وحجته: ظاهر الآية: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} فإن الإحصار- كما يقول أهل اللغة- يكون بالمرض، وأما الحصر (المنع والحبس) فيكون العدو، فلما قال تعالى: {أُحْصِرْتُمْ} ولم يقل (حصرتم) دلّ على أنه أراد ما يعم المرض والعدو.
واستدل بما روي عن ابن مسعود أنه أفتى رجلاً لدغ بأنه محصر وأمره أن يحل.
وحجة الجمهور أن الله تعالى ذكر في الآية قوله: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} وهو يدل على أنه حصر العدو لا حصر المرض، ولو كان من المرض لقال: (فإذا برأتم) ولقول ابن عباس: لا حضر إلا حصر العدو، فقيّد إطلاق الآية وهو أعلم بالتنزيل.
الترجيح: ولعلّ ما ذهب إليه الحنفية يكون أرجح، فهو الموافق لظاهر الآية الكريمة، والموافق ليسر الإسلام وسماحته، وقد اعتضد بأقوال أهل اللغة، فإنهم جميعاً متفقون على أن (الإحصار) يكون بالمرض، و(الحصر) يكون بالعدو، والآية بظاهرها تميل إلى التيسير، فإن المريض الذي يشتد مرضه كيف يمكنه إتمام المناسك! والشخص الذي تضل راحلته، أو تضيع نقوده كيف يستطيع متابعة السفر، مع أنه لم يعد يملك نفقة ولا زاداً؟ وهل يكلفه الإسلام أن يستجدي من الناس؟!
وهذا الذي رجحناه هو الذي اختاره شيخ المفسرين (ابن جرير الطبري) رحمه الله حيث قال ما نصه: وأولى التأويلين بالصواب في قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} تأويل من تأوله بمعنى: فإن أحصركم خوف عدو، أو مرض، أو علة من الوصول إلى البيت، أي صيّركم خوفكم أو مرضكم تحصرون أنفسكم. ولو كان معنى الآية ما ظنه المتأول من قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} فإن حبسكم حابسٌ من العدو عن الوصول إلى البيت، لوجب أن يكون: فإن حصرتم.
أقول ويؤيده ما روي في (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حُجّي واشترطي أن مَحَلّي حيث حبستني» فقد دل على أن المرض من الأسباب المبيحة للتحلل، وهذا ما يتفق مع سماحة الإسلام ويسر أحكامه.
الحكم الثالث: ماذا يجب على المحصر، وأين موضع ذبح الهدي؟
الآية الكريمة صريحة في أن على (المحصر) أن يذبح الهدي لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي} وأقله شاة، والأفضل بقرة أو بدنة، وإنما تجزئ الشاة لقوله تعالى: {فَمَا استيسر} وهذا رأي جمهور الفقهاء، وروي عن ابن عمر أنه قال: بدنة أو بقرة ولا تجزئ الشاة، والصحيح رأي الجمهور.
وأما المكان: الذي يذبح فيه هدي الإحصار فقد اختلف العلماء فيه على أقوال:
فقال الجمهور (الشافعي ومالك وأحمد): هو موضع الحصر، سواءً كان حلاً أو حرماً.
وقال أبو حنيفة: لا ينحره إلا في الحرم لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج: 33].
وقال ابن عباس: إذا كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه، وإلاّ ينحره في محل إحصاره.
قال الإمام الفخر: ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية، فقال الشافعي: المحِلّ في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل، وقال أبو حنيفة: إنه اسم للمكان.
الترجيح: والراجح رأي الجمهور اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أحصر بالحديبية ونحر بها وهي ليست من الحرم، فدلّ على أن المحصر ينحر حيث يحل في حرمٍ أو حل، وأما قوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] وقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج: 33] فذلك- كما يقول الشوكاني- في الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت، والله تعالى أعلم.
الحكم الرابع: ما هو حكم المتمتع الذي لا يجد الهدي؟
دل قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي} على وجوب دم الهدي على المتمتع، فإذا لم يجد الدم- إما لعدم المال، أو لعدم الحيوان- صام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله.
وقد اختلف الفقهاء في هذا الصيام في قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج...} الآية.
فقال أبو حنيفة: المراد في أشهر الحج وهو ما بين الإحرامين (إحرام العمرة) و(إحرام الحج) فإذا انتهى من عمرته حلّ له الصيام وإن لم يحرم بعد بالحج، والأفضل أن يصوم يوم التروية، ويوم عرفة، ويوماً قبلهما يعني (السابع، والثامن، والتاسع) من ذي الحجة.
وقال الشافعي: لا يصح صومه إلا بعد الإحرام في الحج لقوله تعالى: {فِي الحج} وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر، والأصح أنها لا تجوز يوم النحر، ولا أيام التشريق، والمستحب أن تكون في العشر من ذي الحجة قبل يوم عرفة.
ويرى بعض العلماء أن من لم يصم هذه الأيام قبل العيد، فله أن يصومها في أيام التشريق، لقول عائشة وابن عمر رضي الله عنهما (لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْن إلا لمن لا يجد الهدي).
ومنشأ الخلاف بين (الحنفية) و(الشافعية) هو اختلافهم في تفسير قوله تعالى: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج} فالحنفية قالوا في أشهر الحج، والشافعية قالوا: في إحرام الحج، وبكلٍ قال بعض الصحابة والتابعين.
وأما السبعة أيام فقد اختلف الفقهاء في وقت صيامها.
فقال الشافعية: وقت صيامها الرجوع إلى الأهل والوطن لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}.
وقال أحمد بن حنبل: يجزيه أن يصوم في الطريق ولا يشترط أن يصل إلى أهله ووطنه.
وقال أبو حنيفة: المراد من الرجوع الفراغ من أعمال الحج وهو مذهب مالك رحمه الله.
قال الشوكاني: والأول أرجح فقد ثبت في (الصحيح) من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله».
وثبت أيضاً في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ (وسبعةٍ إذا رجعتم إلى أمصاركم).
الحكم الخامس: ما هي شروط وجوب دم التمتع؟
قال العلماء: يشترط لوجوب دم التمتع خمسة شروط:
الأول: تقديم العمرة على الحج، فلو حج ثم اعتمر لا يكون متمتعاً.
الثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج.
الثالث: أن يحج في تلك السنة لقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج}.
الرابع: ألا يكون من أهل مكة لقوله تعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام}.
الخامس: أن يحرم بالحج من مكة، فإن عاد إلى الميقات فأحرم بالحج لا يلزمه دم التمتع.
وقال المالكية: شروطه ثمانية وهي كالتالي (1- أن يجمع بين الحج والعمر 2- في سفر واحد 3- في عام واحد 4- في أشهر الحج 5- وأن تقدم العمرة على الحج 6- وأن يكون إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة 7- وأن تكون العمرة والحج عن شخص واحد 8- وألاَّ يكون من أهل مكة).
الحكم السادس: من هم حاضرو المسجد الحرام؟
دل قوله تعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} على أنّ أهل الحرم لا متعة لهم، وهذا مذهب ابن عباس وأبي حنيفة، وقال (مالك، والشافعي، وأحمد) إن للمكي أن يتمتع بدون كراهة وليس عليه هدي ولا صيام، واستدلوا بأن الإشارة تعود إلى أقرب المذكور، وأقرب المذكور هنا وجوب الهدي أو الصيام على المتمتع، وأما أبو حنيفة فقد أعاد الإشارة إلى التمتع، والتقدير: ذلك التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. وقد اختلفوا في المراد من قوله تعالى: {حَاضِرِي المسجد الحرام}.
فقال مالك: هم أهل مكة بعينها، واختاره الطحاوي ورجحه.
وقال ابن عباس: هم أهل الحرم، قال الحافظ: وهو الظاهر.
وقال الشافعي: من كان أهله على أقل مسافة تقصر فيها الصلاة، واختاره ابن جرير.
وقال أبو حنيفة: هم أهل المواقيت ومن وراءها من كل ناحية.
أقول: لعل ما ذهب إليه المالكية هو الأرجح والله تعالى أعلم.
الحكم السابع: ما هي أشهر الحج؟
واختلف العلماء في المراد من قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} ما هي هذه الأشهر؟
فذهب مالك: إلى أن أشهر الحج (شوال، وذو القعدة، وذو الحجة كلّه) وهو قول (ابن عمر) و(ابن مسعود) و(عطاء) و(مجاهد).
وذهب الجمهور (مالك، والشافعي، وأحمد): إلى أن أشهر الحج (شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة) وهو قول ابن عباس، والسدي، والشعبي، والنخعي، وأما وقت العمرة فجميع السنة.
قال الشوكاني: وتظهر فائدة الخلاف فيما وقع من أعمال الحج بعد يوم النحر، فمن قال: إنّ ذا الحجة كله من الوقت لم يُلْزمه دم التأخير، ومن قال: ليس إلا العشر منه قال: يلزم دم التأخير.
الحكم الثامن: هل يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج؟
اختلف الفقهاء فيم أحرم بالحج قبل أشهر الحج هل يصح إحرامه؟ على أقوال:
الأول: روي عن ابن عباس أنه قال: من سُنّة الحج أن يحرم به في أشهر الحج.
الثاني: فذهب الشافعي أن من أحرم بالحج قبل أشهر الحج لم يجرُّه ذلك ويكون عمرة، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه وتكون نافلة.
الثالث: مذهب أحمد بن حنبل أنه مكروه فقط ويجوز الإحرام قبل دخول أشهر الحج.
الرابع: مذهب أبي حنيفة جواز الإحرام في الحج في جميع السنة كلها وهو مشهور مذهب مالك، واستدلوا بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} [البقرة: 189] وقالوا: كما صح الإحرام للعمرة في جميع السنة، كذلك يجوز للحج.
قال العلامة القرطبي: وما ذهب إليه الشافعي أصح لأن هذه عامة وتلك الآية خاصة والخاص يقدم على العام وقد مال إلى هذا المذهب الشوكاني ورجحه لأنه موافق لظاهر النص الكريم.
الحكم التاسع: ما هي محرمات الإحرام؟
حظر الشارع على المحرم أشياء كثيرة، منها ما ثبت بالكتاب، ومنها ما ثبت بالسنة، ونحن نذكرها بالإجمال فيما يلي:
أولاً: الجماع ودواعيه، كالتقبيل، واللمس بشهوة، والإفحاش بالكلام، والحديث مع المرأة الذي يتعلق بالوطء أو مقدماته.
ثانياً: اكتساب السيئات، واقتراف المعاصي، التي تخرج الإنسان عن طاعة الله عز وجل.
ثالثاً: المخاصمة والمجادلة مع الرفقاء والخدم وغيرهم.
والأصل في تحريم هذه الأشياء قوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} وهذه كلها بنص الآية الكريمة.
روى البخاري في (صحيحه) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حجّ فلم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
وقد ثبت بالسنة بعض المحرمات كالتطيب، ولبس المخيط، وتقليم الأظافر، وقص الشعر أو حلقه، وانتقاب المرأة، ولبسها القفازين.. إلى أخر ما هنالك من محرمات وهذه تعرف من كتب الفروع.
الحكم العاشر: ما هو حكم الوقوف بعرفة، ومتى يبتدئ وقته؟
أجمع العلماء على أن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك».
ويرى جمهور العلماء أن وقت الوقوف يبتدئ من زوال اليوم التاسع، إلى طلوع فجر اليوم العاشر، وأنه يكفي الوقوف في أي جزء من هذا الوقت ليلاً أو نهاراً، إلا أنه إذا وقف بالنهار وجب عليه مد الوقوف إلى ما بعد الغروب، أما إذا وقف بالليل فلا يجب عليه شيء.
وقد روي عن الإمام (مالك) رحمه الله أنه إذا أفاض قبل غروب الشمس لم يصح حجه وعليه حج قابل، قال القرطبي: واختلف الجمهور فيمن أفاض قبل غروب الشمس ولم يرجع ماذا عليه؟فقال (الشافعي وأحمد وأبو حنيفة) عليه دم، وقال (مالك) عليه حج قابل، والهدي ينحره في حج قابل وهو كمن فاته الحج.


{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}
[11] القتال في الأشهر الحرام:
التحليل اللفظي:
{كُرْهٌ}: بضم الكاف أي مكروه لكم تكرهه نفوسكم لما فيه من المشقة، وُضع المصدر موضع الوصف مبالغةً، كقوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] وكقول الخنساء:
فإنما هي إقبال وإدبار ***
قال ابن قتيبة: الكَره بالفتح معناه الإكراه والقهر، وبالضم معناه المشقة.
{الشهر الحرام}: الشهر الذي يحرم فيه القتال، والمراد به هنا شهر رجب، وكان يدعى (الأصم) لأنه لم يكن يسمع فيه للسلاح قعقعة تعظيماً له.
{وَصَدٌّ}: الصدّ: الصرف والمنع يقال: صدّه عن الشيء أي منعه عنه.
{والفتنة}: أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم.
{يَرْتَدِدْ}: أي يرجع، والردّة: الرجوع من الإيمان إلى الكفر، ويُسمى فاعل ذلك مرتداً.
قال الراغب: الارتداد والردة: الرجوع في الطريق الذي جاء منه، لكن الردة تختص بالكفر، والارتداد يستعمل فيه وفي غيره قال تعالى: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِه} [المائدة: 54] وهو الرجوع من الإسلام إلى الكفر، وقال تعالى: {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64].
{حَبِطَ}: أي فسد وبطل عمله، قال في (اللسان): حبَط حبْطاً وحبوطاً: عمل عملاً ثم أفسده، وفي التنزيل؟ {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28] أي أبطل ثوابهم.
قال أهل اللغة: أصل الحَبْط مأخوذ من (الحَبَط) وهو أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطونها، ولا يخرج عنها ما فيها وفي الحديث: «وإنّ مما ينبت الربيع ما يقتل حَبَطاً أو يُلمّ» فسمي بطلان العمل بهذا لما فيه من الفساد.
{هَاجَرُواْ}: الهجرة مفارقة الأهل والوطن في سبيل الله لنصرة دينه.
قال الراغب: الهجرة الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان وأصلها من الهَجْر الذي هو ضد الوصل، ومنه قيل للكلام القبيح (هُجْر) لأنه مما ينبغي أن يُهجر، والهاجرة: وقت الظهيرة لأنه وقت يهجر فيه العمل.
{وَجَاهَدُواْ}: الجهاد بذل الوسع والمجهود وأصله من الجهد الذي هو المشقة، وسمي قتال الأعداء (جهاداً) لأن فيه بذل الروح والمال لإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه.
{يَرْجُونَ}: الرجاء هو الأمل والطمع في حوصل ما فيه نفع.
قال الراغب: الرجاء ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة.
وفي (اللسان): الرجاء من الأمل نقيض اليأس، وهو بمعنى التوقع والأمل، قال بشر يخاطب بنته:
فرجّي الخير وانتظري إيابي *** إذا ما القارظ العنزيّ آبا
{غَفُورٌ رَّحِيمٌ}: أي واسع المغفرة للتائبين المستغفرين، عظيم الرحمة بعبادة المؤمنين.
المعنى الإجمالي:
يقول الله جل ثناؤه ما معناه: «فُرض عليكم- أيها المؤمنون- قتال الكفار، وهو شاق عليكم، تنفر منه الطباع لما فيه من بذل المال وخطر هلال النفس، ولكن قد تكره نفوسكم شيئاً وفيه كل النفع والخير، وقد تحب شيئاً وفيه كل الخطر والضرر، والله يعلم ما هو خير لكم مما هو شر لكم، فلا تكرهوا ما فرض عليكم من جهاد عدوكم، فإنه فيه الخير لكم في العاجل والآجل.
يسألك أصحابك- يا محمد- عن القتال في الشهر الحرام، أيحل لهم القتال فيه؟ قل لهم: القتال في نفسه أمر كبير، ولكن صدّ المشركين عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، وكفرهم بالله، وإخراجكم من البلد الحرام وأنتم أهله وحماته، كلُّ ذلك أكبرُ جرماً وذنباً عند الله من قتل من قتلتم من المشركين، وقد كانوا يفتنونكم عن دينكم فذلك أكبر عند الله من القتل، فإن كنتم قتلتموهم في الشهر الحرام، فقد ارتكبوا ما هو أشنع وأقبح من ذلك، حيث فتنوكم عن دينكم، والفتنة أكبر من القتل.
ثمّ أخبر تعالى بأن المشركين لا يزالون جاهدين في فتنة المؤمنين، حتى يردوهم عن دينهم إن قدروا على ذلك، فهم غير نازعين عن كفرهم وإجرامهم، ومن يستجب لهم منكم فيرجع عن دينه، فقد بطل عمله وذهب ثوابه، وأصبح من المخلدين في نار جهنم، لأنه استجاب لداعي الضلال.
ثم أخبر تعالى أن المؤمنين الذين هاجروا مع رسول الله، وبذلوا جهدهم في مقاومة الكفار أعداء الله هم الذين يرجون رحمة الله وإحسانه، وهم جديرون بهذا الفضل والعطاء لأنهم استفرغوا ما في وسعهم، وبذلوا غاية جهدهم في مرضاة الله، فحُقَّ لهم أن ينالوا الفوز والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث (عبد الله بن جحش) على سرية في جمادى الآخرة، قبل قتال بدر بشهرين، ليترصدوا عيراً لقريش فيها (عمرو بن عبد الله الحضرمي) وثلاثة معه، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير بما فيها من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فقالت قريش: قد استحلّ محمد الشهر الحرام، شهراً يأمن فيه الخائف، ويتفرق فيه الناس إلى معايشهم، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم العير، وعظم ذلك على أصحاب السرية وقالوا: ما نبرح حتى تنزل توبتنا فنزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ} قال ابن عباس: لما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة».
وجوه الإعراب:
1- قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ} قتالٍ: بدل من الشهر الحرام بدل اشتمال والمعنى: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، وقال الكسائي: هو مخفوض على التكرير أي عن قتال فيه.
2- قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله} صدّ: مبتدأ و(عن سبيل الله) متعلق به (وكفر) معطوف عن صدّ (وإخراج أهله) معطوف أيضاً، وخبر الأسماء الثلاثة (أكبر).
قال الزمخشري: (والمسجد الحرامِ) عطف على (سبيل الله) ولا يجوز أن يعطف على الهاء في (به).
3- قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ} مَنْ: شرطية مبتدأ والخبر هو جملة: {فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}.
لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى: كلمة (عسى) توهم الشك في أصلها مثل (لعلّ) وهي من الله يقين، قال الخليل: عسى من الله واجب في القرآن قال: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح} [المائدة: 52] وقد وُجد، و{عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} [يوسف: 83] وقد حصل.
اللطيفة الثانية: قال الحسن: لا تكرهوا الشدائد والملمات، فربّ أمر تكرهه فيه نجاتك، وربّ أمرٍ تحبه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير:
ربّ أمرٍ تتّقيه *** جرّ أمراً ترتضيه
خفي المحبوب منه *** وبدا المكروه فيه
اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} أي مكروه لكم بالطبع، لأنه شاق وثقيل على النفس، وهذه الكراهة الطبيعية لا تنافي الرضا بحكم الله وقضائه كالمريض يشرب الدواء المر البشع الذي تعافه نفسه، لاعتقاده بما فيه من النفع في العاقبة، وإنما وضع المصدر في الآية موضع الوصف مبالغة كقوله الخنساء:
فإنما هي إقبال وإدبار ***
اللطيفة الرابعة: استعظم المشركون القتل في الشهر الحرام، مع أنهم فعلوا ما هو أفظع وأشنع، من الصد عن دين الله، والفتنة للمؤمنين، وفيهم يقول بعض الشعراء:
تعدون قتلاً في الحرام عظيمة *** وأعظم منه لو يرى الرشدَ راشدُ
صدودكُمُ عمّا يقولُ محمدٌ *** وكفرٌ به واللهُ راءٍ وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله أهلَه *** لئلا يُرى لله في البيت ساجدُ
فإنّا وإن عيرتمونا بقتله *** وأرجف بالإسلام باغٍ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا *** بنخلةَ لمّا أوقد الحربَ واقد
اللطيفة الخامسة: قال الزمخشري: في قوله تعالى: {إِن اسْتَطَاعُواْ} استبعاد لاستطاعتهم كقول الرجل لعدوه: إن ظفرتَ بي فلا تبق عليّ، وهو واثق لا يظفر به.
اللطيفة السادسة: التعبير بقوله تعالى: {أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله} فيه لطيفة وهي ألا يتكل الإنسان على عمله، بل يعتمد على فضل الله كما جاء في الحديث الشريف: «لن يُدخلَ أحدَكُم عملُه الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».
وعن قتادة رضي الله عنه: هؤلاء خيار هذه الأمة، ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون، وإنه من رجا طلب، ومن خاف هرب.
الأحكام الشرعية:
الحكم الأول: هل يباح القتال في الأشهر الحرم؟
دلت هذه الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام، وقد اختلف المفسرون هل بقيت الحرمة أم نسخت؟
فذهب عطاء إلى أن هذه الآية لم تنسخ، وكان يحلف على ذلك، كما قال ابن جرير: حلف لي عطاء بالله أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا على سبيل الدفع.
وذهب الجمهور إلى أن الآية منسوخة، نسختها آية براءة: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة: 36] سئل (سعيد بن المسيب) هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال: نعم.
حجة الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا (هوازن) بحنين، و(ثقيفاً) بالطائف، وأرسل (أبا عامر) إلى أوطاس ليحارب من فيها من المشركين، وكان ذلك في بعض الأشهر الحرم، ولو كان القتال فيهن حراماً لما فعله النبي عليه السلام.
قال ابن العربي: والصحيح أن هذه الآية رد على المشركين حين أعظموا على النبي صلى الله عليه وسلم القتال في الشهر الحرام، فقال تعالى: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ..} فإذا فعلتم ذلك كله في الشهر الحرام تعيّن قتالكم فيه.
الحكم الثاني: هل الردة تحبط العمل وتذهب بحسنات الإنسان؟
دل قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} على أن الردة تُحبط العملَ، وتُضيع ثواب الأعمال الصالحة، وقد اختلف العلماء في المرتد هل يحبط عمله بنفس الردة، أم بالوفاة على الكفر؟
فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن العمل يحبط بنفس الردّة.
وقال الشافعي رحمه الله: لا يبطل العمل إلا بالموت على الكفر.
حجة الشافعي قوله تعالى: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} فقد قيّده بالموت على الكفر، فإذا أسلم بعد الردة لم يثبت شيء من الأحكام، لا حبوط العمل، ولا الخلود في النار.
وحجة مالك وأبي حنيفة قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] فقد دلت الآيتان على أن الكفر محبط للعمل بدون تقييد بالوفاة على الكفر.
وقد انبنى على ذلك خلافهم في المسلم إذا حجّ ثم ارتد ثم أسلم.
فقال مالك وأبو حنيفة يلزمه إعادة الحج، لأن ردته أحبطت حجه.
وقال الشافعي: لا حج عليه لأن حجة قد سبق، والردة لا تحبطه إلا إذا مات على كفره.
قال ابن العربي في تفسيره (أحكام القرآن): واستظهر علماؤنا بقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وقالوا: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته، لأنه صلى الله عليه وسلم يستحيل منه الردة، وإنما ذكر الموافاة، شرطاً هاهنا لأنه علّق عليها الخلود في النار جزاءً ممن وافى كافراً خلّده في النار بهذه الآية، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين مختلفين، وحكمين متغايرين.
أقول: ظواهر النصوص تشير إلى إحباط العمل بالردّة مطلقاً، فالراجح قول المالكية والحنفية والله أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة:
1- القتال مكروه للنفوس ولكنه سبيل لنصرة الحق وإعزاز الدين.
2- لا ينبغي للمؤمن أن يتقاعس عن الجهاد لأن فيه النصر أو الشهادة.
3- الصد عن دين الله، والكفر بآيات الله أعظم إثماً من القتال في الشهر الحرام.
4- الهدف من قتال المشركين للمسلمين ردهم إلى الكفر بشتى الطرق والوسائل.
5- الردة عن الإسلام تحبط العمل وتخلد الإنسان في نار جهنم.


{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}
[12] تحريم الخمر والميسر:
التحليل اللفظي:
{الخمر}: المسكر من عصير العنب وغيره، وهي مأخوذة من خَمَر الشيء إذا ستره وغطاه، سميت خمراً لأنها تستر العقل وتغطيه، ومنه قولهم: خمّرتُ الإناء أي غطيته.
قال الزجاج: الخمر في اللغة: ما ستر على العقل، يقال: دخل فلان في خمار الناس أي في الكثير الذي يستتر فيهم، وخمار المرأة قناعها، سمي خماراً لأنه يغطي رأسها.
وقال ابن الأنباري: سميت خمراً لأنها تخامر العقل أي تخالطه، يقال خامره الداء إذا خالطه، وأنشد لكثير:
هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامر ***
{والميسر}: القمار، من اليسر وهو السهولة، لأنه كسب من غير كدّ ولا تعب، أو من اليسار (الغنى) لأنه سبب يساره.
قال الأزهري: الميسر: الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسراً لأنه يجزأ أجزاءً، وكل شيء جزّأته فقد يَسَرْته.
وفي (الصحاح): ويَسر القوم الجزور إذا اقتسموا أعضاءها.
والياسر: الذي يلي قسمة الجزور.
{إِثْمٌ}: الإثم: الذنب وجمعه آثام، يقال: آثم وأثِم، والآثم المتحمل الإثم قال تعالى: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] أفاده الراغب.
وتسمى الخمر ب (لإثم) لأنّ شربها سبب في الإثم قال الشاعر:
شربتُ الإثم حتى ضلّ عقلي *** كذاك الإثم تذهب بالعقول
{العفو}: الفضل والزيادة على الحاجة.
قال القفال: العفو سهُل وتيسُر مما يكون فاضلاً عن الكفاية، يقال: خذ ما عفا لك أي ما تيسّر.
والمعنى: انفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تُجهدوا فيه أنفسكم.
{لأَعْنَتَكُمْ}: أي أوقعكم في الحرج والمشقة، وأصل العنت: المشقة، يقال: أعنت فلانٌ فلاناً إذا أوقعة فيما لا يستطيع الخروج منه، وعَنت العظم: إذا انكسر بعد الجبر، وأكمةٌ عنوت: إذا كانت شاقة كدوداً، ومنه قوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] أي شديد عليه ما شق عليكم.
قال الزجاج: ومعنى قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ} أي لو شاء لكلفكم ما يشتد عليكم.
{عَزِيزٌ حَكِيمٌ}: {عَزِيزٌ} أي لا يمتنع عليه شيء، لأنه غالب لا يغالب {حَكِيمٌ} أي يتصرف في ملكه كيف يشاء حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
المعنى الإجمالي:
يقول الله جل ثناؤه ما معناه: يسألك أصحابك يا محمد عن حكم تناول الخمر، وعن حكم الميسر (القمار) قل لهم: إن في مقارفة الخمر والميسر إثماً كبيراً، وضرراً عظيماً، وفيهما نفع مادي ضئيل، وضررهما أعظم وأكبر من نفعهما، فإن ضياع العقل، وذهاب المال، وتعريض الجسد للتلف في الخمر، وما يجرُّه القمار من خراب البيوت، ودمار الأسر، والصدّ عن عبادة الله وطاعته، وحدوث العداوة والبغضاء بين اللاعبين، كل ذلك إذا قيس إلى النفع المادي التافه، ظهر الضرر الكبير الفادح في هاتين الموبقتين الخبيثتين. ويسألونك ماذا ينفقون من أموالهم، وماذا يتركون؟ قل لهم: أنفقوا الفضل والزيادة بقدر ما يسهل ويتيسر عليكم، مما يكون فاضلاً عن حاجتكم، وحاجة من تعولون، كذلك قضت حكمة الله أن يبيّن لكم المنافع والمضار، وأن يرشدكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم لتتفكروا في أمر الدنيا والآخرة، فتعلموا أن الأولى فانية، وأن الآخرة باقية، فتعملوا لها، والعاقل من آثر ما يبقى على ما يفنى.
ويسألونك- يا محمد- عن معاملة اليتامى، أيخاطونهم أم يعتزلونهم، قل لهم: قصد إصلاح أموالهم خير من اعتزالهم، وإن خالطتموهم فهم إخوانكم في الدين، والأخ ينبغي أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والله رقيب مطّلع عليكم يعلم المفسد منكم من المصلح، فلا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعة إلى أكل أموالهم، ولو شاء الله لأوقعكم في الحرج والمشقة، ولكنه يسّر عليكم وسهّل الدين رحمة ورأفة بكم، وهو العزيز الذي لا يمتنع عليه شيء، الحكيم فيما يشرّع لعباده من الأحكام.
سبب النزول:
أولاً: روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمر بن الخطاب أنه قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فإنها تذهب بالمال والعقل، فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} فُدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية في سورة النساء [43] {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى} فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربنّ الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] قال عمر: انتهينا، انتهينا.
ثانياً: وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما نزلت: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] ونزل: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10] انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء من طعامه، فيُحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتدّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم.
وجوه القراءات:
1- قرأ الجمهور (قل فيهما إثم كبير) بالباء، وقرأ حمزة والكسائي (كثير) بالثاء.
قال الطبري: ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة لقيل: وإثمهما أكثر من نفعهما.
2- قرأ الجمهور (قل العفوَ) بالنصب، وقرأ أبو عمرو (قل العفوُ) بالرفع. ويكون معنى الكلام حينئذٍ: ما الذي؟ ينفقون قل: المنفقُ العفوُ.
وجوه الإعراب:
1- قوله تعالى: {كذلك يُبيِّنُ الله} قال ابن الأنباري: الكاف في (كذلك) إشارة إلى ما بيّن من الإنفاق، فكأنه قال: مثل ذلك الذي بينه لكم في الإنفاق يبيّن الآيات، ويجوز أن يكون (كذلك) ليس إشارة إلى ما قبله بل بمعنى (هكذا) قاله ابن عباس.
وقال العكبري: الكاف في (كذلك) في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي تبييناً مثل هذا التبيين يبيّن الله لكم، وقوله (في الدنيا والآخرة) متعلقة ب (تتفكرون) ويجوز أن تتعلق ب (تبيّن) والمعنى: يبيّن لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة.
2- قوله تعالى: {إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} (إصلاح) مبتدأ، و(خير) خبره، وجاز الابتداء بالنكرة هنا لأنها في معنى الفعل تقديره: أصلحوهم.
3- قوله تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ} مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم إخوانكم.
لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى: أنزل الله تعالى في الخمر أربع آيات، نزل بمكة قوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] فكان المسلمون يشربونها في أول الإسلام وهي لهم حلال، ثم نزل بالمدينة قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ} فتركها قوم لقوله: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} وشربها قوم لقوله: {ومنافع لِلنَّاسِ} ثم إن (عبد الرحمن بن عوف) صنع طعاماً ودعا إليه ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمهم وسقاهم الخمر، وحضرت صلاة المغرب فقدموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ (قل يا أيها الكافرون. أعبد ما تعبدون) بحذف (لا) فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فحرّم الله السكر في أوقات الصلاة، فكان الرجل يشربها بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال سكره، ثم إن (عتبان بن مالك) صنع طعاماً ودعا إليه رجالاً من المسلمين فيهم (سعد بن أبي وقاص) وكان قد شوى لهم رأس بعير، فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، فافتخروا عند ذلك وتناشدوا الأشعار، فأنشد بعضهم قصيدة فيها فخر قومه وهجاء الأنصار، فأخذ رجل من الأنصار لحي بعير فضرب به رأس (سعد) فشجه، فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري فأنزل الله: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ...} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90-91]؟ فقال عمر: انتهينا ربنا انتهينا.
اللطيفة الثانية: في تحريم الخمر بهذا الترتيب حكمة بليغة، وذلك أن القوم ألفوا شرب الخمر، وأصبحت جزءاً من حياتهم، فلو حرّمت عليهم دفعة واحدة لشق ذلك على نفوسهم وربما لم يستجيبوا لذلك النهي، كما تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: «أول ما نزل من القرآن سورة من المفصّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلالُ والحرام، ولو نزل أول ما نزل: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمرة أبداً».
وذلك من الخطة الحكيمة التي انتهجها الإسلام في معالجة الأمراض الاجتماعية، فقد سلك بالناس طريق (التدريج في تشريع الأحكام) فبدأ بالتنفير مه بطريق غير مباشر كما في الآية الأولى، ثم بالتنفير المباشر عن طريق المقارنة بين شيئين: شيء فيه نفع ضئيل، وشيء فيه ضرر وخطر جسيم، كما في الآية الثانية، ثم بالتحريم الجزئي في أوقات الصلاة كما في الآية الثالثة، ثم بالتحريم الكلي في جميع الأوقات كما في الآية الرابعة، فللَّه ما أدق هذا التشريع وما أحكمه؟!
اللطيفة الثالثة: فإن قيل: كيف يكون في الخمر منافع، مع أنها تذهب بالمال والعقل؟
فالجواب أن المراد بالمنافع في الآية (المنافع المادية) التي كانوا يستفيدونها من تجارة الخمر، يربحون منها الربح الفاحش، كما يربحون من وراء الميسر، ومما يدل على أن النفع مادي أن الله تعالى قرنها بالميسر: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} ولا شك أن النفع في الميسر (مادي) بحت حيث يكون الربح لبعض المقامرين فكذلك في الخمر.
قال العلامة القرطبي: أمّا المنافع في الخمر فربح التجارة، فإنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص، فيبيعونها في الحجاز بربح، وكانوا لا يرون المماكسة فيها، فيشتري طالب الخمر الخمر بالثمن الغالي، هذا أصح ما قيل في منافعها.
ويحتمل أن يراد النفع في الخمر تلك اللذة والنشوة المزعومة التي عبرّ عنها الشاعر بقوله:
ونشربها فتتركنا ملوكاً *** وأُسْداً ما ينهنها اللقاء
لا يلذ السّكْر حتّى *** يأكل السكرانُ نعلَه
ويرى القصعة فيلاً *** ويظنَّ الفيل نملة
اللطيفة الرابعة: أثمن وأغلى شيء في الإنسان عقله، فإذا فقد الإنسان العقل أصبح كالحيوان، ولهذا حرم الله الخمر وسميت ب (أم الخبائث) لأنها سبب في كل قبيح.
روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم متعبّد فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنّا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطيةُ خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليّ، أو تشرب من هذه الخمر كأساً، أو تقتل هذا الغلام، قال: فاسقيني من هذه الخمر كأساً، فسقته كأساً قال: زيدوني فزادوه، فلم يبرح حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلا يوشك أن يُخْرج أحدُهما صاحبه.
اللطيفة الخامسة: قال (قيس بن عاصم المِنْقري) في ذم الخمر بعد أن حرّمها على نفسه:
رأيت الخمر صالحة وفيها *** خصالٌ تُفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحاً *** ولا أشفي بها أبداً سقيماً
ولا أعطي بها ثمناً حياتي *** ولا أدعو لها أبداً نديماً
فإن الخمر تفضح شاربيها *** وتجنيهم بها الأمر العظيما
قال القرطبي: وإن الشارب يصير ضُحكة للعقلاء، فيلعب ببوله وعذرته وربما يمسح وجهه، حتى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، ورؤي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له: أكرمك الله كما أكرمتني.
اللطيفة السادسة: قال صاحب (الكشاف): في صفة الميسر الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية كانت لهم عشرة أقداح وهي (الفذّ، والتوأم، والرقيب، والحِلْس، والنافس، والمسبل، والمعلَّى، والمنيح، والسفيح، والوغد) لكلّ واحد منه نصيب معلوم من جزور ينحرونها إلا لثلاثة وهي (المنيح، والسفيح، والوغد) فللفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، يجعلونها في خريطة ويضعونها على يد عدل، ثم يجلجلها ويدخل يدخ فيخرج باسم رجلٍ رجلٍ قدحاً منها، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئاً، وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه؟
الأحكام الشرعية:
الحكم الأول: هل الآية الكريمة دالة على تحريم الخمر؟
ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} دالة على تحريم الخمر، لأن الله تعالى ذكر فيها قوله: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} وقد حرم الله الإثم بقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم...} [الأعراف: 33] الآية وهذا اختيار القاضي أبي يعلى.
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية تقتضي ذم الخمر دون تحريمها، بدليل أن بعض الصحابة شربوا الخمر بعد نزولها- كما مرّ في أسباب النزول- ولو فهموا التحريم لما شربها أحد منهم، وهذه الآية منسوخة بآية المائدة وهذا قول مجاهد، وقتادة، ومقاتل.
قال القرطبي: في هذه الآية ذم الخمر، فأما التحريم فيعلم بآية أخرى هي آية المائدة [90] {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان} وعلى هذا أكثر المفسدين.
الحكم الثاني: ما هي الخمر وهل هي اسم لكل مسكر؟
اختلف العلماء في تعريف الخمر ما هي؟
فقال أبو حنيفة: الخمر الشراب المسكر من عصير العنب فقط، وأما المسكر من غيره كالشراب من التمر أو الشعير، فلا يسمى خمراً بل يُسمى نبيذاً. وهذا مذهب الكوفيين والنخعي، والثوري، وابن أبي ليلى.
وذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) إلى أن الخمر اسم لكلّ شراب مسكر، سواءً كان من عصير العنب، أو التمر، أو الشعير أو غيره، وهو مذهب جمهور المحدثين وأهل الحجاز.
حجة الكوفيين وأبي حنيفة:
احتج الكوفيون وأبو حنيفة بأن الأنبذة لا تسمى خمراً، ولا يسمى خمراً إلا لشيء المشتد من عصير العنب باللغة، والسنة:
أما اللغة: فقول (أبي الأسود الدؤلي) وهو حجة في اللغة:
دع الخمر تشربْها الغواة فإنني *** رأيت أخاها مغنياً بمكانها
فإن لا تكنْه أو يكنْها فإنه *** أخوها غذته أمه بلبانها
وأما السنة: فما روي عن أبي سعيد الخدري قال: «أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بنشوان فقال له: أشربت خمراً؟ قال: ما شربتها منذ حرّمها الله ورسوله، قال: فماذا شربت؟ قال: الخليطين، قال: فحرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخليطين».
فنفى الشارب اسم الخمر عن (الخليطين) بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره عليه.
حجة الجمهور:
واستدل الحجازيون وجمهور الفقهاء على أن كل مسكر خمر بما يلي:
أولاً: حديث ابن عمر: «كلّ مسكر خمرٌ، وكل مسكر حرامٌ».
ثانياً: حديث أبي هريرة: «الخمر من هاتين الشجرتين وأشار إلى الكرمة والنخلة».
ثالثاً: حديث أنس: «حرمت الخمر حين حرّمت، وما يُتخذ من خمر الأعناب إلا قليل، وعامة خمرنا البُسْرُ والتمر».
رابعاً: حديث ابن عمر: «نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذرة، والخمرُ ما خامر العقل».
خامساً: حديث أم سلمة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتّر.
واستدلوا لمذهبهم على أن المسكر يسمى خمراً باللغة أيضاً وهو أن الخمر سميت خمراً لمخامرتها للعقل، وهذه الأنبذة تخامر العقل أي تستره وتغيبه فلذلك تسمى خمراً، فالخمرُ هو السكر من أي شرابٍ كان، لأن السكر يغطي العقل، ويمنع من وصول نوره إلى الأعضاء.
قال الفخر الرازي: فهذه الاشتقاقات من أقوى الدلائل على أن مسمّى الخمر هو المسكر، فكيف إذا انضافت الأحاديث الكثيرة إليه؟ لا يقال: إن هذا إثبات للغة بالقياس وهو غير جائز، لأنا نقول: ليس هذا إثباتاً للغة بالقياس بل هو تعيين المسمى بواسطة هذه الاشتقاقات.
والترجيح: ونحن إذا تأملنا أدلة الفريقين- ما ذكر منها وما لم يذكر- ترجح عندنا قول الجمهور وأهل الحجاز، فالخمر حرام، وكمل مسكر خمر كما قال عمر رضي الله عنه، وذلك لأن الصحابة لما سمعوا تحريم الخمر فهموا منه تحريم الأنبذة، وهم كانوا أعرف الناس بلغة العرب ومراد الشارع، وقد ثبت بالسنة المطهّرة تحريم كل مسكر ومفتّر، وثبت عن أنسٍ أنه كان ساقي القوم في منزل أبي طلحة حين حرمت الخمر، وما كان خمرهم يومئذٍ إلا الفضيخ، فحين سمعوا تحريم الخمر أهراقوا الشراب وكسروا الأواني، وما كان الفضيخ إلا من نقيع البسر، فما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح المعوّل عليه، لا سيّما وأن المتأخرين من الأحناف أفتوا بقول محمد في سائر الأشربة وهو الحق الذي لا محيد عنه.
قال العلامة الألوسي: وعندي أن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان، وبأي اسم سمي، متى كان بحيث يُسكر حرام، وقليله ككثيره، ويحد شاربه، ويقع طلاقه، ونجاسته غليظة.
الحكم الثالث: ما هي أنواع الميسر المحرّم؟
اتفق العلماء على تحريم ضروب القمار، وأنها من الميسر المحرّم لقوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} فكل لعب يكون فيه ربح لفريق وخسارة لآخر هو من الميسر المحرم، سواءً كان اللعب بالنرد، أو الشطرنج أو غيرهما، ويدخل فيه في زماننا مثل (اليانصيب) سواء منه ما كان بقصد الخير (اليانصيب الخيري) أو بقصد الربح المجرد فكله ربح خبيث: «وإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً».
قال صاحب الكشاف: وفي حكم الميسر أنواع القمار، من النرد والشطرنج وغيرهما، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم وهاتين اللعبتين المشئومتين فإنهما من ميسر العجم».
وعن علي رضي الله عنه: أن النرد والشطرنج من الميسر.
وعن ابن سيرين: كل شيء فيه خطر فهو من الميسر.
قال صاحب (روح المعاني): وفي حكم الميسر جميع أنواع القمار من النرد، والشطرنج، وغيرهما حتى أدخلوا فيه لعب الصبيان بالجوز والكعاب، والقرعة في غير القسمة، وجميع أنواع المخاطرة والرهان.
أما النرد فمحرم بالاتفاق لقوله عليه السلام: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله».
وأما الشطرنج: فقد أباحه الإمام الشافعي بشروط ذكرها الإمام الفخر حيث قال: وقال الشافعي رضي الله عنه: إذا خلا الشطرنج عن الرهان، واللسان عن الطغيان، والصلاة عن النسيان، لم يكن حراماً، وهو خارج عن الميسر، لأن الميسر ما يوجب دفع المال، أو أخذ مال، وهذا ليس كذلك، فلا يكون قماراً ولا ميسراً.
وأما السبق في الخيل والدواب، والرميُ بالنصَال والسهام فقد رخص فيه بشروط تعرف من كتب الفقه وليس هنا محل تفصيلها والله تعالى أعلم.
خاتمة البحث:
حكمة التشريع:
حرم الله الخمر والميسر، لما فيهما من الأضرار الفادحة، والمفاسد الكثيرة، والآثام التي تتولد من هاتين الرذيلتين سواءً في النفس أو البدن أو العقل أو المال.
فمن مضار الخمر أنه يذهب العقل حتى يهذي الشارب كالمجنون، ويفقد الإنسان صحته ويخرّب عليه جهازه الهضمي، فيحدث التهابات في الحلق، وتقرحات في المعدة والأمعاء، وتمدداً في الكبد، ويعيق دورة الدم، وقد يوفقها فيموت السكّير فجأة، وقد أثبت الطب الحديث ضرر الخمر الفادح في الجسم والعقل حتى قال بعض أطباء ألمانيا: اقفلوا لي نصف الحانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات، والبيمارستانات (مستشفى الأمراض العقلية) والسجون.
ويكفي الخمر شراً أنها (أم الخبائث) كما ورد في الحديث الشريف.
وأما مضار الميسر فليست بأقل من مضار الخمر، فهو يورث العداوة والبغضاء بين اللاعبين، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ويفسد المجتمع بتعويد الناس على البطالة والكسل، بانتظار الربح بدون كد ولا تعب، ويهدّم الأسر ويخرّب البيوت، فكم من أسرة تشرّدت وتحطمت وافتقرت بعد أن كانت تعيش بين أحضان الثروة والغنى بسبب مقامرة أربابها، فكان في ذلك الدمار والهلاك لتلك الأسر المنكوبة، كما انتهى الأمر بالكثير من اللاعبين إلى قتل أنفسهم بالانتحار، أو الرضا بعيشة الذل والمهانة.
ولا تزال الأيام تظهر من مضار الخمر والميسر ما لم يكن معروفاً من قبل، فيتجلى لنا صدق وصف الكتاب الكريم: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7